في عصر المرئيات لم علينا الاستمرار في القراءة ؟
25 يناير، 2023بين زحام الشاشات هل لا يزال الورق حياً؟!
إن كنت تشكو من عسر القراءة فهذه الكلمات ليست محطتك بعد، لذا نوصيك بالمرور على مقالة ” في عصر المرئيات لم علينا الاستمرار في القراءة؟!” نفرض في هذه المقالة أنك تصالحت مع الكتب وهممت القراءة لكن ضجيج الحداثة قد أشغلك باختيار الأدوات.
قد يصعب الترجيح بين الوسيلة الأفضل للقراءة في عصرنا الحالي؛ الورق أم الشاشة؟ لإن كل منهما تنفرد عن الأخرى بميزات رائعة أحياناً وفظيعة أحياناً أخرى
وقد يزيد الأمر حيرة أننا ما زلنا في ظل نهضة رقمية لم تتكشف صورتها الكاملة بعد من ناحية آثارها بعيدة الأجل لنجزم بأفضلية أداة القراءة الكلاسيكية المتمثلة بالكتب المطبوعة وابنت أخيها حديثة العهد المتمثلة بالكتب المطبوعة
لنحصل على إجابة جيدة لسؤال: من الأفضل الشاشات أم الورق؟ يجب علينا الرجوع إلى الوراء قليلاً وتأمل المشهد التاريخي لنسأل هل كانت الكتب موجودة منذ الأزل؟ وإن لم تكن كيف كانت تنتقل المعرفة عبر العصور؟
وقبل أن تتلاشى الذكريات المتناثرة لعهد ما قبل الحاسوب خلف قطار الثورة الرقمية لنعد بالقصة إلى بدايتها على عجل ونعرف
كيف بدأ الكتاب نفسه
بدأت الحكاية كلها حين احتاج الانسان إلى حفظ بعض المعلومات التي يتناقلها مثل الفواتير وعدد المحاصيل والأحداث المهمة فاكتشف الكتابة وبعد ظهور الكتابة احتاج الانسان إلى وسائل أكثر عملية لتدوين المعلومات فاعتمد على ورق الأشجار وغيرها
إلى أن ظهر استعمال الورق بطريقة تشبه التي نعرفها اليوم حيث كان يتم حفظ المعلومات وتناقلها شفهياً قبل ذلك وعندها بدأ تدوين الكلام على الورق وكان حين يراد أن يحصل على نسخة من الكتاب يتم ذلك بالكتابة اليدوية
استمرت عملية نسخ الكتب عبر النساخين الذين يتولون تلك المهمة وهذا ما كان يسبب بطئا في انتشار المعارف والعلوم بل حتى اندثارها وهذا حال كثيراً من العلوم التي اما ماتت في صدور أصحابها أو اندثرت مع اندثار وضياع مخطوطات مؤلفيها التي لم يحالفه الحظ فتنسخ
وإلى اليوم يوجد الكثير من المخطوطات التي لم ترى نور الشاشات بعد ولم تحظى بالتداول إلا بين ايادي من خطها وتوارثها ليكون مصيرها المتاحف في الغالب أو غياهب الحضارات المخفية
ونحن نسرد تلك الحقائق التاريخية كي نعي أهمية القفزة المعرفية التي حققها الانسان باختراعه الطباعة التي يمكننا القول عنها أنها أحد أهم الاختراعات التي سرعت من النهضة العلمية وتناقل المعارف
فالطباعة سرعت نسخ المئات والألفات من الكتب ووفرت إمكانية توزيعها على القارئين في شتى بقاع الأرض وبالرغم من ذلك فثورة الطباعة لا تقل أهمية عن القفزة الحضارية التالية التي حصلت في تاريخنا المعاصر
بعد الثورة التي احدثتها الطباعة يمكننا القول إن موجة ثورية أخرى جاءت لتضاعف سرعة انتشار المعارف ألا وهي الثورة الرقمية حيث استطاع اختراع الانترنت ربط العالم بعضه ببعض وسهّل الاغتراف من المحتوى الضخم الذي شاركه الملايين من خلال الشبكة العنكبوتية ومن بوابتهم الوحيدة إليه = حواسيبهم ذات الشاشات
ومع تسارع التطور التقني والمنافسة الشديدة لمواكبة ثورة المعلومات الجديدة برزت العديد من الاختراعات التي كانت تدور في فلك تسهيل تبادل المعلومات وإظهارها وبرز من ضمنها الحاسوب الشخصي الذي امتلك وسائط التنقيب وإخراج تلك المعلومات من شاشات ومكبرات الصوت وغيرها والتي تم العمل على تطويرها وتحسينها إلى أن وصلت إلى درجات عالية من الدقة وانخفاض الحجم وخفة الوزن مما أتاح الوصول إلى الحواسيب المحمولة والأجهزة الكفية التي يمكن حملها في الجيب والتي نراها اليوم في أحدث صورها على شكل التابلت والهاتف المحمول.
إلى أن افضت الينا سلسلة الاختراعات هذه إلى هيئة الكتب الالكترونية الحالية باختلاف طريقة عرضها على الشاشات مما سمح لنا تصفح بحور الكتب من مقدمة ابن خلدون إلى آخر مطبوعات دور النشر الغربية وكل ذلك بضغطات بسيطة ودقائق معدودة وهذا ما أعطى للكتب الالكترونية أهمية كبرى وجعلها تهز عرش الكتب المطبوعة
مشكلتنا مع الشاشات
من سردنا لتاريخ الكتب قد ندرك أن القراءة ليست ملكة فطرية لدى الإنسان مثل اللغة وعلى عكس المتوقع القراءة عادة مكتسبة اقترنت مع ظهور الحاجة لقراءة ما دوّن وحين ندرك هذه الحقيقة ندرك أهمية التدريب على هذه المهارة وخصوصاً للقارئ المبتدئ الذي قد يكون أقل صبراً وتركيزاً – بحكم قلة مرونته واعتياده على القراءة – من نظيره الذي اعتاد القراءة
لكن مهلاً ألسنا جميعاً قرّاءً؟! نحن نتعرض إلى الآلاف من الكلمات يومياً في حال استخدامنا المتوسط لشبكات التواصل الاجتماعي التي تعتمد بشكل كبير على الكلمات في محتواها فلو استطعنا تمثيل أن منصات التواصل الاجتماعي هي عبارة عن أوراق متناثرة ومبعثرة لكتب بلا ملزمة لاستطعنا القول إن كل تمريرة – Scroll- في منصة ما قد تعادل قراءة صفحة من أحد ورقات تلك الكتب
أمر محيّر بالفعل!! ما الذي قد يمنع أحداً من قراءة الكثير من صفحات بشكل ما وينفر من قراءتها بشكل آخر؟
التصفح، القراءة، والمطالعة قد لا تكمن الإجابة بمعرفة الفروقات بين هذه الكلمات الثلاث – إن أثارت فضولك الإجابة يمكن الوصول إليها عبر مقالتنا التي سلطنا بها الضوء على القراءة السريعة والجردية بعنوان: “القراءة الجردية ما لم تعلمنا إياه المدرسة” –
نحن بتصفحنا محتوى شبكات التواصل الاجتماعي نقف عند المعلومة السهلة والمسلية بالغالب ونتجاوز المعلومة الصعبة والطويلة
وما يزيد الأمر سوءاً خوارزميات المنصات التي تغرقك بالمحتوى الرائج السهل والمسلي فإنسان اليوم بأشد الحاجة للصلح مع قليل من الملل وبذل مزيد من الجد والصبر في واقع الانترنت المليء بالصخب والتسلية والراحة
فكثير من الشباب اليوم لا يقرأ سوى المطلوب منه ضمن مراحل التعليم وفي كثير من الأحيان لا يقرهء البتة وذلك مما سببته الأجهزة الرقمية من قلة جودة انتباه القارئ
فالعجب كل العجب ممن يحرص على تجنب المأكولات السريعة مجهولة المكونات ويركن إلى المعلومات السريعة مجهولة المصادر ويا لقرب واختلاف مضار كل منهما!
في كتابها “أيها القارئ عد إلى وطنك” تدعو وولف القراء للعودة إلى الكتب المطبوعة ليس لإنها مهددة بالاختفاء بل لإن القراء بدأوا بفقدان الزمان والمكان اللازمين للاستمتاع بالقراء وصت ضجيج إشعارات أجهزة الشاشات الحديثة
ولربما قد لاحظت يوماً مقدار الهدوء الذي يتلو صوت ضوضاء طويل أو شعور الدفء أحياناً في حال غياب الكهرباء ولو لدقائق معدودة
وما أشبه ذلك بشعور الركون لكتاب ورقي بعد يوم ضوضاء رقمي طويل
جمال الكتاب
قد يكون طالب العلم الناشئ هو أولى الناس بالنصح للقراءة من الكتب المطبوعة وخصوصاً أنها تمنحه الصفاء والهدوء والوقت الكافي للاعتياد على عادة القراءة وقد يكون ذلك ليس بضروري للقارئ الخبير والنهم الذي قد يكون أقل تأثيراً بالمشاكل التي حملتها معها رقمنة الكتب، فهي توفر احساساً مشبعاً بالكلمات من خلال إشراك حواس إضافية لممارسة عملية القراء كلمس الورق وشم رائحته إضافة إلى إحساس بوجوده الفيزيائي وإمكانية الشعور بمدى التقدم من خلال سماكة تكدس الورقات المقروءة مما يعطي انطباعاً محفزاً يشكل بعداً جديداً لعلاقة القارئ مع الكتاب على عكس الكتب الرقمية التي لا تعطي نفس الشعور بالضرورة عدا ارتفاع نسبة التشتت وارهاق إضاءتها للعين
وطبعا كل ما ذكر مسبقاً لا ينفي فضل الثورة الرقمية في تطوير ودعم الأبحاث وتحويل المخطوطات إلى كتب تسهل البحث بها وفرزها وتحليلها فكما ضاع جزء من تراثنا الإسلامي والعربي في دجلة نجى بعضها ووصل إلينا بتطبيق مثل المكتبة الشاملة التي تعد أحد ثمرات الرقمنة وكذا للكتب الرقمية ميزات يعجز تقديمها الكتاب المطبوع مثل دعم القراءة الصوتية مما يعزز المعلومات باستقبالها سمعاً وقراءةَ ودعم المحتوى التفاعلي وسهولة التصفح والانتقال للمراجع والإحالات وحتى دعم المحتوى التفاعلي في بعض الأحيان
حبر على غير الورق
من محاسن التنافس في المنتجات في عصرنا ومع ازدياد الطلب على القراءة من الشاشات والأجهزة المحمولة تظهر لنا التقنيات يوماً فيوم وتنافست الشركات في جعل المنتجات تقدم الخدمة الأمثل للاستخدام الطويل بأقل الاضرار الممكنة لعين القارئ مما مكن ازدياد استخدام الشاشات لقراءة الكتب في أي مكان وأي وقت وبأقل مقدار من التشتت مما أوصلنا للشاشات التي الهجينة التي تستخدم الحبر عوضاً عن الضوء في عرض المعلومات تحت مسمة أجهزة قراءة الكتب الإلكترونية الحبرية – أو كما تسمى بالكيندل –
فكما أصبحنا نفقد الصبر في إتمام المقالات الطويلة أو الكتب المرجعية مكتفين بخلاصات تجارب وآراء شخصية بعيداً عن التفكير الناقد
لربما نحن بحاجة لإرجاع لباس الجد والصبر والتأني لطالب العلم عوضاً عن حاجتنا لحسم الجدل حول الطريقة المثلى للقراءة لإن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها أو كما أوصاناً رسول أمة أقرأ عليه الصلاة والسلام.